فصل: تفسير الآية رقم (64)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ‏}‏ أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به من الاتيان بكتاب أهدى منهما، وإنما عبر عنه بالاستجابة إيذاناً بأنه عليه الصلاة والسلام على كمال أمن من أمره، كان أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالاتيان بما ذكر دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه‏.‏

وقيل‏:‏ المراد فإن لم يستجيبوا دعاءك إياهم إلى الإيمان بعد ما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي جاءهم فالاستجابة على ظاهرها لأن الإيمان أمر يريد صلى الله عليه وسلم حقيقة وقوعه منهم وهي كما في البحر بمعنى الإجابة وتتعدى إلى الداعي باللام كما في هذه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجاب لَهُ رَبُّهُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 34‏]‏، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاستجبنا لَهُ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 76‏]‏ وبنفسها كما في بيت الكتاب‏:‏

وداع دعا يا من يجيب إلى الندا *** فلم يستجبه عند ذاك مجيب

وقال الزمخشري‏:‏ هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام ويحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال‏:‏ استجاب الله تعالى دعاءه أو استجاب له ولا يكاد يقال‏:‏ استجاب له دعاءه، وقوله في البيت فلم يستجبه على حذف مضاف أي فلم يستجب دعاءه انتهى، ولو جعل ضمير يستجبه للدعاء المفهوم من داع لم يحتج إلى تقدير، وجعل المفعول هنا محذوفاً لذكر الداعي، ووجهه على ما قيل‏:‏ أنه مع ذكر الداعي والاستجابة يتعين أن المفعول الدعاء فيصير ذكره عبثاً، وجوز كون الحذف للعلم به من فعله لا لأنه ذكر الداعي، وهذا حكم الاستجابة دون الإجابة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أجيبو داعي الله‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 31‏]‏

‏{‏فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ‏}‏ الزائغة من غير أن يكون لهم متمسك ما أصلا إذا لو كان لهم ذلك لأتوا به ‏{‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ‏}‏ استفهام إنكاري للنفي أي لا أضل ممن اتبع هواه ‏{‏بِغَيْرِ هُدًى مّنَ الله‏}‏ أي هو أضل من كل ضال وإن كان ظاهر السبك لنفي الأضل لا لنفي المساوي كما مر في نظائره مراراً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ هُدًى‏}‏ في مضوع الحال من فاعل اتبع، وتقييد الاتباع بذلك لزيادة التقرير والإشباع في التشنيع والتضليل وإلا فمقارنته لهدايته تعالى بينة الاستحالة، وقيل‏:‏ للاحتراز عما يكون فيه هدى منه تعالى فإن الإنسان قد يتبع هواه ويوافق الحق، وفيه بحث ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ الذين ظلموا أنفسهم فانهمكوا في اتباع الهوى والاعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول‏}‏ الضمير لأهل مكة، وأصل التوصيل ضم قطع الحبل بعضها ببعض قال الشاعر‏:‏

فقل لبني مروان ما نال ذمتي *** بحبل ضعيف لا يزال يوصل

والمعنى ولقد أنزلنا القرآن عليهم متواصلاً بعضه أثر بعض حسبما تقتضيه الحكمة أو متتابعاً وعداً ووعيداً وقصصاً وعبراً ومواعظ ونصائح، وقيل‏:‏ جعلناه أوصالا أي أنواعاً مختلفة وعداً ووعيداً الخ، وقيل‏:‏ المعنى وصلنا لهم خبر الآخرة بخبر الدنيا حتى كأنهم عاينوا الآخرة وعن الأخفش أتممنا لهم القول، وقرأ الحسن ‏{‏وَصَّلْنَا‏}‏ بتخفيف الصاد والتضعيف في قراءة الجمهور للتكثير ومن هنا قال الراغب في تفسير ما في الآية عليها أي أكثرنا لهم القول موصولاً بعضه ببعض ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ فيؤمنون بما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ‏}‏ قبل القرآن على أن الضمير للقول مراداً به القرآن أو للقرآن المفهوم منه وأياً ما كان فالمراد من قبل إيتائه ‏{‏هُمْ‏}‏ لا هؤلاء الذين ذكرت أحوالهم ‏{‏بِهِ‏}‏ أي بالقرآن ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ وقيل‏:‏ الضميران للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالموصول على ما روي عن ابن عباس مؤمنو أهل الكتاب مطلقاً، وقيل‏:‏ هم أبو رفاعة في عشرة من اليهود، آمنوا فأوذوا، وأخرج ابن مردويه بسند جيد وجماعة عن رغاعة القرظي ما يؤيده وقيل‏:‏ أربعون من أهل الإنجيل كانوا مؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وثمانية قدموا من الشام بحيراً وأبرهة وأشرف وعامروا يمن وادريس ونافع وتميم، وقيل‏:‏ ابن سلام‏.‏ وتميم الداري‏.‏ والجارود العبدي‏.‏ وسلمان الفارسي‏.‏ ونسب إلى قتادة واستظهر أبو حيان الإطلاق وأن ما ذكر من باب التمثيل لمن آمن من أهل الكتاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا يتلى‏}‏ أي القرآن ‏{‏عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ‏}‏ أي بأنه كلام الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا‏}‏ أي الحق الذي كنا نعرف حقيته، وهو استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به، وجوز أن تكون الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ‏}‏ أي من قبل نزوله ‏{‏مُسْلِمِينَ‏}‏ بيان لكون إيمانهم به أمراً متقادم العهد لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة وأنهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن ويكفي في كونهم على دين الإسلام قبل نزوله إيمانهم به إجمالاً‏.‏ وفي الكشاف والبحر أن الإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي والظاهر عليه أن الإسلام ليس من خصوصيات هذه الأمة من بين الأمم‏.‏ وذهب السيوطي عليه الرحمة إلى كونه من الخصوصيات وألف في ذلك كراسة وقال في ذيلها‏:‏ لما فرغت من تأليف هذه الكراسة واضطجعت على الفراش للنوم ورد على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 52‏]‏ الآية فكأنما ألقى على جبل لما أن ظاهرها الدلالة للقول بعدم الخصوصية وقد أفكرت فيها ساعة ولم يتجه له فيها شيء فلجأت إلى الله تعالى ورجوت أن يفتح بالجواب عنها فلما استيقظت وقت السحر إذا بالجواب قد فتح فظهر عنها ثلاثة أجوبة‏:‏ الأول أن مسلمين اسم فاعل مراد به الاستقبال كما هو حقيقة فيه دون الحال والماضي والتمسك بالحقيقة هو الأصل وتقدير الآية إنا كنا من قبل مجيئه عازيمن على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا من بعثه ووصفه ويرشح هذا أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الأخبار بحقية القرآن وأنهم كانوا على قصد الإسلام به إذا جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وليس قصدهم الثناء على أنفسهم في حد ذاتهم بأنهم كانوا بصفة الإسلام أو لا لنبو المقام عنه كما لا يخفى، الثاني أن يقدر في الآية إنا كنا من قبله مسلمين به فوصف الإسلام سببه القرآن لا التوراة والإنجيل ويرشح ذلك ذكر الصلة فيما قبل حيث قال سبحانه‏:‏ ‏{‏هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 52‏]‏ فإنه يدل على أن الصلة مرادة هنا أيضاً إلا أنها حذفت كراهة التكرار‏.‏ الثالث أن هذا الوصف منهم بناء على ما هو مذهب الأشعري من أن من كتب الله تعالى أن يموت مؤمناً فهو يسمى عنده تعالى مؤمناً ولو كان في حال الكفر وإنما لم نطلق نحن هذا الوصف عليه لعدم علمنا بما عنده تعالى، فهؤلاء لما ختم الله تعالى لهم بالدخول في الإسلام أخبروا عن أنفسهم أنهم كانوا متصفين به قبل لأن العبرة في هذا الوصف بالخاتمة ووصفهم بذلك أولى من وصف الكافر الذي يعلم الله تعالى أنه يموت على الإسلام به لأنهم كانوا على دين حق وهذا معنى دقيق استفدناه في هذه الآية من قواعد علم الكلام انتهى‏.‏

ولا يخفى ضعف هذا الجواب وكذا الجواب الأول وأما الجواب الثاني فهو بمعنى ما ذكرناه في الآية وقد ذكره البيضاوي وغيره وجوز أن يراد بالإسلام الإنقياد أي إنا كنا من قبل نزوله منقادين لأحكام الله تعالى الناطق بها كتابه المنزل إلينا ومنها وجوب الإيمان به فنحن مؤمنون به قبل نزوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بما ذكر من النعوت ‏{‏يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ‏}‏ مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن ‏{‏بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ أي بصبرهم وثباتهم على الإيمانين أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده أو على أذى من هاجرهم وعاداهم من أهل دينهم ومن المشركين ‏{‏وَيَدْرَءونَ‏}‏ أي يدفعونَ‏}‏ بالحسنة‏}‏ أي بالطاعة ‏{‏‏}‏ بالحسنة‏}‏ أي بالطاعة ‏{‏‏}‏ أي بالطاعة ‏{‏السيئة‏}‏ أي المعصية فإن الحسنة تمحو السيئة قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ‏:‏ أتبع السيئة الحسنة تمحها، وقيل‏:‏ أي يدفعون بالحلم الأذى وقال ابن جبير‏:‏ بالمعروف المنكر وقال ابن زيد‏:‏ بالخير الشر وقال ابن سلام‏:‏ بالعلم اجلهل وبالكظم الغيظ وقال ابن مسعود‏:‏ بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ أي في سبيل الخير كما يقتضيه مقام المدح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو‏}‏ سقط القول وقال مجاهد‏:‏ الأذى والسب وقال الضحاك‏:‏ الشرك وقال ابن زيد‏:‏ ما غيرته اليهود من وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏أَعْرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ أي عن اللغو تكرماً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 72‏]‏ ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ لهم أي للاغين المفهوم من ذكر اللغو ‏{‏لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم‏}‏ متاركة لهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏سلام عَلَيْكُمُ‏}‏ قالوه توديعاً لهم لا تحية أو هو للمتاركة أيضاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏ وأياً ما كان فلا دليل في الآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام كما زعم الجصاص إذ ليس الغرض من ذلك إلا المتاركة أو التوديع‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكفار «لا تبدءوهم بالسلام وإذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» نعم روي عن ابن عباس جواز أن يقال للكافر ابتداء السلام عليك على معنى الله تعالى عليك فيكون دعاء عليه وهو ضعيف، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ نَبْتَغِى الجاهلين‏}‏ بيان للداعي للمتاركة والتوديع أي لا تطلب صحبة الجاهلين ولا نريد مخالطتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى‏}‏ هداية موصلة إلى البغية لا محالة ‏{‏مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ أي كل من أحبيته طبعاً من الناس قومك وغيرهم ولا تقدر أن تدخله في الإسلام وان بذلت فيه غاية المجهود وجاوزت في السعي كل حد معهود، وقيل‏:‏ من أحببت هدايته‏.‏

‏{‏ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ هدايته فيدخله في الإسلام ‏{‏وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏ بالمستعدين لذلك وهم الذين يشاء سبحانه هدايتهم ومنهم الذي ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب، وأفعل للمبالغة في علمه تعالى‏.‏

وقيل‏:‏ يجوز أن يكون على ظاهره، وأفاد كلام بعضهم أن المراد أنه تعالى أعلم بالمهتدي دون غيره عز وجل، وحيث قرنت هداية الله تعالى بعلمه سبحانه بالمهتدي وأنه جل وعلا العالم به دون غيره دل على أن المراد بالمهتدي المستعد دون المتصف بالفعل فيلزم أن تكون هدايته إياه بمعنى القدرة عليها، وحيث كانت هدايته تعالى لذلك بهذا المعنى، وجيء بلكن متوسطة بينها وبين الهداية المنفية عنه صلى الله عليه وسلم لزم أن تكون تلك الهداية أيضاً بمعنى القدرة عليها لتقع لكن في موضعها، ولذا قيل‏:‏ المعنى إنك لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره ولكن الله تعالى يبقدر على أن يدخل من يشاء إدخاله وهو الذي علم سبحانه أنه غير مطبوع على قلبه، وللبحث فيه مجال، وظاهر عبارة الكشاف حمل نفي الهداية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ على نفي القدرة على الإدخال في الإسلام وإثباتها في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ على وقوع الادخال في الإسلام بالفعل، وهذا وإثباتها في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ على وقوع الإدخال في الإسلام بالفعل، وهذا ما اعتمدناه في تفسير الآية، ووجهه أن مساق الآية لتسليته صلى الله عليه وسلم حيث لم ينجع في قومه الذين يحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص انذاره عليه الصلاة والسلام إياهم وما جاء به إليهم من الحق بل أصروا على ما هم عليه، وقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْلا أُوتِىَ مِثْلَ مَا أُوتِىَ موسى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 48‏]‏ ثم كفروا به وبموسى عليهام الصلاة والسلام فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه صلى الله عليه وسلم حيث آمنوا بما جاء به من الحق وقالوا‏:‏ ‏{‏إنه الحق من ربنا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 53‏]‏ ثم صرحوا بتقادم إيمانهم به وأشاروا بذلك إلى إيمانهم بنبيهم وبما جاءهم به أيضاً فلو لم يحمل إنك لا تهدي من أحببت على نفي القدرة على إدخال من أحبه عليه الصلاة والسلام في الإسلام بل حمل على نفي وقوع ادخاله صلى الله عليه وسلم إياه فيه لبعد الكلام عن التسلية وقرب إلى العتاب فإنه على طرز قولك لمن له أحباب لا ينفعهم إنك لا تنفع أحبابك وهو إذ لم يؤول بأنك لا تقدر على نفع أحبابك فإنما يقال على سبيل العتاب أو التوبيخ أو نحوه دون سبيل التسلية، ولما كان لهدايته تعالى أولئك الذين أوتوا الكتاب مدخلاً فيما يستدعي التسلية كان المناسب إبقاء ‏{‏ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ على ظاهره من وقوع الهداية بالفعل دون القدرة على الهداية وإثبات ذلك له تعالى فرع إثبات القدرة ففي إثباته إثباتها لا محالة فيصادف الاستدراك المحز، وحمل المعتدين على المستعدين للهداية لا يستدعي حمل يهدي على يقدر على الهداية فما ذكر من اللزوم ممنوع؛ ويجوز أن يراد بالمهتدين المتصفون بالهداية بالفعل، والمراد بعلمه تعالى بهم مجازاته سبحانه على اهتدائهم فكأنه قيل‏:‏ وهو تعالى أعلم بالمهتدين كأولئك الذين ذكروا من أهل الكتاب فيجازيهم على اهتدائهم بأجر أو بأجرين فتأمل، والآية على ما نطقت به كثير من الأخبار نزلت في أبي طالب‏.‏

أخرج عبد بن حميد‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال‏:‏ لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة فقال‏:‏ لولا أن يعيروني قريش يقولون‏:‏ ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وأحمد‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهم، عن سعيد بن المسيب عن أبيه نحو ذلك، وأخرج أبو سهل السري بن سهل من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ‏}‏ الخ نزلت في أبي طالب الخ النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلم فأبى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد روي نزولها فيه عنه أيضاً ابن مردويه، ومسألة إسلامه خلافية، وحكاية إجماع المسلمين أو المفسرين على أن الآية نزلت فيه لا تصح فقد ذهب الشيعة وغير واحد من مفسريهم إلى إسلامه وادعوا إجماع أئمة أهل البيت على ذلك وإن أكثر قصائده تشهد له بذلك؛ وكأن من يدعي إجماع المسلمين لا يعتد بخلاف الشيعة ولا يعول على رواياتهم، ثم إنه على القول بعدم إسلامه لا ينبغي سبه والتكلم فيه بفضول الكلام فإن ذلك مما يتأذى به العلويون بل لا يبعد أن يكون مما يتأذى به النبي عليه الصلاة والسلام الذي نطقت الآية بناءاً على هذه الروايات بحبه إياه، والاحتياط لا يخفى على ذي فهم‏.‏

ولأجل عين ألف عين تكرم‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا‏}‏ أي نخرج من بلادنا ومقرنا، وأصل الخطف الاختلاس بسرعة فاستعير لما ذكر، والآية نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف حيث أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد الله تعالى عليهم خوف التخطف بقوله‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَماً ءامِناً‏}‏ أي ألم نعصمهم ونجعل مكانهم حرماً ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه تتاجر العرب حوله وهم آمنون فيه، فالعطف على محذوف و‏{‏نُمَكّن‏}‏ مضمن معنى الجعل، ولذا نصب حرماً وآمناً للنسب كلابن وتامر، وجعل أبو حيان الإسناد فيه مجازياً لأن الآمن حقيقة ساكنوه فيستغني عن جعله للنسب وهو وجه حسن ‏{‏يجبى إِلَيْهِ‏}‏ أي يحمل إليه ويجمع فيه من كل جانب وجهة ‏{‏ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء‏}‏ أي ثمرات أشياء كثيرة على أن كل للتكثير وأصل معناه الإحاطة وليست بمرادة قطعاً، والجملة صفة أخرى لحرماً دافعة لما عسى يتوهم من تضررهم إن اتبعوا الهدى بانقطاع الميرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رّزْقاً مّن لَّدُنَّا‏}‏ نصب عن المصدر من معنى يجبى لأن مآله يرزقون، أو الحال من ثمرات بمعنى مرزوقاً وصح مجىء الحال من النكرة عند من لا يراه لتخصصها بالإضافة هنا، أو على أنه مفعول له بتقدير نسوق إليه ذلك رزقاً‏.‏ وحاصل الرد أنه لا وجه لخوف من التخطف إن أمنوا فإنهم لا يخافون منه وهم عبدة أصنام فكيف يخافون إذا أمنوا وضموا حرمة الإيمان إلى حرمة المقام ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ جهلة لا يتفطنون ولا يتفكرون ليعلموا ذلك فهو متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ نُمَكّن‏}‏ الخ‏.‏

وقيل‏:‏ هو متعلق بقوله سبحانه‏:‏ من لدنا أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله عز وجل إذ لو علموا لما خافوا غيره، والأول أظهر، والكلام عليه أبلغ في الذم، وقرأ المنقري ‏{‏نُتَخَطَّفْ‏}‏ بالرفع كما قرىء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏ برفع يدرك وخرج بأنه بتقدير فنحن نتخطف وهو تخريج شذوذ‏.‏

وقرأ نافع وجماعة عن يعقوب‏.‏ وأبو حاتم عن عاصم ‏{‏تجبى‏}‏ بتاء التأنيث، وقرىء ‏{‏تجنى‏}‏ بالنون من الجنى وهو قطع الثمرة وتعديته بإلى كقولك يجنى إلى فيه ويجنى إلى الخافة وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم ‏{‏وَمِن ثمرات‏}‏ بضم الثاء والميم، وقرأ بعضهم ‏{‏ثمرات‏}‏ بفتح الثاء وإسكان الميم، ثم إنه تعالى بعد أن رد عليهم خوفهم من الناس بين أنهم أحقاء بالخوف من بأس الله تعالى بقوله‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا‏}‏ أي وكثيراً من أهل قرية كانت حالهم كحال هؤلاء في الأمن وخفض العيش والدعة حتى بطروا واعتروا ولم يقوموا بحق النعمة فدمرنا عليهم وخربنا ديارهم ‏{‏فَتِلْكَ مساكنهم‏}‏ التي تمرون عليها في أسفاركم كحجر ثمود خاوية بما ظلموا حال كونها‏.‏

‏{‏لَمْ تُسْكَن مّن بَعْدِهِمْ‏}‏ من بعد تدميرهم ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي إلا زماناً قليلاً إذ لا يسكنها إلا المارة يوماً أو بعض يوم أو إلا سكناً قليلاً وقلته باعتبار قلة الساكنين فكأنه قيل‏:‏ لم يسكنها من بعدهم إلا قليل من الناس‏.‏

وجوز أن يكون الاستثناء من المساكن أي إلا قليلاً منها سكن وفيه بعد، ‏{‏وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين‏}‏ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر ذات أيديهم، وفي «الكشاف» أي تركناها على حال لا يسكنها أحد أو خربناها وسويناها بالأرض وهو مشير إلى أن الوراثة إما مجرد انتقالها من أصحابها وإما إلحاقها بما خلقه الله تعالى في البدء فكأنه رجع إلى أصله ودخل في عداد خالص ملك الله تعالى على ما كان أولاً وهذا معنى الإرث، وانتصاب معيشتها على التمييز على مذهب الكوفيين، أو مشبه بالمفعول به على مذهب بعضهم، أو مفعول به على تضمين بطرت معنى فعل متعد أي كفرت معيشتها ولم ترع حقها على مذهب أكثر البصريين أو على إسقاط ‏{‏فِى‏}‏ أي في معيشتها على مذهب الأخفش، أو على الظرف نحو جئت خفوق النجم على قول الزجاج‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى‏}‏ بيان للعناية الربانية إثر بيان إهلاك القرى المذكورة أي وما صح وما استقام أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الإنذار بل كانت سنته عز وجل أن لا يهلكها ‏{‏حتى يَبْعَثَ فِى أُمّهَا‏}‏ أي في أصلها وكبيرتها التي ترجع تلك القرى إليها ‏{‏رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ الناطقة بالحق ويدعهم إليه بالترغيب والترهيب، وإنما لم يهلكهم سبحانه حتى يبعث إليهم رسولاً لإلزام الحجة وقطع المعذرة بأن يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك، وإنما كان البعث في أم القرى لأن في أهل البلدة الكبيرة وكرسي المملكة ومحل الأحكام فطنة وكيساً فهم أقبل للدعوة وأشرف‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة أن أم القرى مكة والرسول محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد بالقرى القرى التي كانت في عصره عليه الصلاة والسلام والأولى أولى، والالتفات إلى نون العظمة في آياتنا لتربية المهابة وإدخال الروعة وقرىء ‏{‏فِى أُمّهَا‏}‏ بكسر الهمزة اتباعاً للميم ‏{‏وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى‏}‏ عطف على ‏{‏مَا كَانَ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى‏}‏ ‏{‏إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون‏}‏ استثناءً مفرغ من أعم الأحوال أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أمها رسولاً يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إليه في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا والكفر بآياتنا فالبعث غاية لعدم صحة الإهلاك بموجب السنة الإلهية لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الإهلاك عقيب البعث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أُوتِيتُم مّن شَىْء‏}‏ أي أي شيء أصبتموه من أمور الدنيا وأسبابها ‏{‏فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا‏}‏ فهو شيء شأنه أن يتمتع به ويتزين به أياماً قلائل ويشعر بالقلة لفظ المتاع وكذا ذكر ‏{‏أبقى‏}‏ في المقابل وفي لفظ الدنيا إشارة إلى القلة والخسة ‏{‏وَمَا عِندَ الله‏}‏ في الجنة وهو الثواب ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة ‏{‏وأبقى‏}‏ لأنه أبدى وأين المتناهي من غير المتناهي ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي ألا تتفكرون فلا تفعلون هذا الأمر الواضح فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وتخافون على ذهاب ما أصبتموه من متاع الحياة الدنيا وتمتنعون عن اتباع الهدى المفضي إلى ما عند الله تعالى لذلك فكأن هذا رد عليهم في منع خوف التخطف إياهم من اتباعه صلى الله عليه وسلم على تقدير تحقق وقوع ما يخافونه‏.‏ وقرأ أبو عمرو يعقلون بياء الغيبة على الالتفات وهو أبلغ في الموعظة لإشعاره بأنهم لعدم عقلهم لا يصلحون للخطاب، فالالتفات هنا لعدم الالتفات زجراً لهم وقرىء ‏{‏وأبقى قَالُواْ لَن‏}‏ أي فتتمتعون به في الحياة الدنيا فنصب متاعاً على المصدرية والحياة على الظرفية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً‏}‏ أي وعداً بالجنة وما فيها من النعيم الصرف الدائم فإن حسن الوعد بحسن الموعود ‏{‏فَهُوَ‏}‏ أي مدركاً لا محالة لاستحالة الخلف في وعده تعالى ولذلك جىء بالجملة الاسمية المفيدة لتحققه البتة وعطفت بالفاء المنبئة عن السببية ‏{‏كَمَنْ مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا‏}‏ الذي هو مشوب بالآلام منغص بالأكدار مستتبع بالتحسر على الانقطاع، ومعنى الفاء الأولى ترتيب إنكار التشابه بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله تعالى أي أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوى بين الفريقين وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين‏}‏ عطف على متعناه داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه مقوله كأنه قيل كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم نحضره أو أحضرناه يوم القيامة للنار أو العذاب وغلب لفظ المحضر في المحضر لذلك والعدول إلى الجملة الاسمية قيل للدلالة على التحقق حتماً ولا يضر كون خبرها ظرفاً مع العدول وحصول الدلالة على التحقق لو قيل أحضرناه لا ينافي ذلك، وقد يقال‏:‏ إن فيما ذكر في «النظم الجليل» شيء آخر غير الدلالة على التحقيق ليس في قولك ثم أحضرناه يوم القيامة كالدلالة على التقوى أو الحصر والدلالة على التهويل والإيقاع في حيرة، ولمجموع ذلك جىء بالجملة الاسمية، ويوم متعلق بالمحضرين المذكور، وقدم عليه للفاصلة أو هو متعلق بمحذوف وقد مر الكلام في مثل ذلك، وثم للتراخي في الرتبة دون الزمان وإن صح وكان فيه إبقاء اللفظ على حقيقته لأنه أنسب بالسياق وهو أبلغ وأكثر إفادة وأرباب البلاغة يعدلون إلى المجاز ما أمكن لتضمنه لطائف النكات‏.‏

وقرأ طلحة ‏{‏مِن وعدناه‏}‏ بغير فاء، وقرأ قالون‏.‏ والكسائي ‏{‏ثُمَّ هُوَ‏}‏ بسكون الهاء كما قيل‏:‏ عضد وعضد تشبيهاً للمنفصل وهو الميم الأخير من ثم بالمتصل، والآية نزلت على ما أخرج ابن جرير عن مجاهد في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل‏.‏ وأخرج من وجه آخر عنه أنها نزلت في حمزة وأبي جهل، وقيل‏:‏ نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وأبي جهل ونسب إلى محمد بن كعب‏.‏ والسدي، وقيل‏:‏ في عمار رضي الله تعالى عنه‏.‏ والوليد بن المغيرة، وقيل‏:‏ نزلت في المؤمن والكافر ملطقاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ‏}‏ عطف على ‏{‏يوم القيامة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 61‏]‏ لاختلافهما عنواناً وإن اتحدا ذاتاً أو منصوب بإضمار اذكر ونداؤه تعالى إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وأن يكون بدونها وهو نداء إهانة وتوبيخ ‏{‏فَيَقُولُ‏}‏ تفسير للنداء ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي فإن زعم مما يتعدى إلى مفعولين كقوله‏:‏

وأن الذي قد عاش يا أم مالك *** يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلاً

وحذف هنا المفعولان معاً ثقة بدلالة الكلام عليهما نحو من يسمع يخل‏.‏ وفي «الكشاف» يجوز حذف المفعولين في باب ظننت ولا يصح الاقتصار على أحدهما، وادعى بعضهم أن عدم صحة الاقتصار هو الأصح وأنه الذي ذهب إليه الأكثرون‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إذا دخلت هذه الأفعال ظن وأخواتها على أن نحو ظننت أنك قائم فالمفعول الثاني منهما محذوف والتقدير ظننت قيامك كائناً لأن المفتوحة بتأويل المفرد‏.‏ وسيبويه يرى في ذلك أن أن مع ما بعدها سدت مسد المفعولين، وأجاز الكوفيون الاقتصار على الأول إذا سد شيء مسد الثاني كما في باب المبتدأ نحو أقائم أخواك فيقولون هل ظننت قائماً أخواك‏؟‏ وقال أبو حيان‏:‏ إذا دل دليل على أحدهما جاز حذفه كقوله‏:‏

كأن لم يكن بين إذا كان بعده *** تلاق ولكن لا أخال تلاقياً

أي لا أخال بعد البين تلاقياً وقال صاحب التحفة‏:‏ يجوز الاقتصار في باب كسوت على أحد المفعولين بدليل وبغير دليل لأن الأول فيهما غير الثاني وأجاز بعضهم حذف الأول إذا كان هو الفاعل معنى نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 57‏]‏ أي ولا يحسبن الذين كفروا إياهم أي أنفسهم معجزين، وقال الطيبي‏:‏ في عدم الحذف فيما عدا ما ذكر‏.‏ وجواز الحذف فيه لعل السر أن هذه الأفعال قيود للمضامين يتدخل على الجمل الاسمية لبيان ما هي عليه لأن النسبة قد تكون عن علم وقد تكون عن ظن فلو اقتصر على أحد طرفي الجملة لقيام قرينة توهم أن الذي سيق له الكلام والذي هو مهتم بشأنه الطرف المذكور وليس غير المذكور مما يعتني به، نعم إذا كان الفاعل والمفعول لشيء واحد يهون الخطب، وذكر عن صاحب الإقليد ما يؤيده وقد أطال طيب الله تعالى مرقده الكلام في هذا المقام، وادعى ابن هشام أن الأولى أن يقدر هنا الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي لأنه لم يقع الزعم في التنزيل على المفعولين الصريحين بل على أن وصلتها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ وفيه نظر‏.‏ والظاهر أن المراد بالشركاء من عبد من دون الله تعالى من ملك أو جن أو إنس أو كوكب أو صنم أو غير ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مبني على حكاية السؤال كأنه قيل‏:‏ فماذا كان بعد هذا السؤال فقيل قال‏:‏ ‏{‏الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ أي ثبت عليهم مقتضى القول وتحقق مؤداه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 119‏]‏ وغيره من آيات الوعيد، والمراد بالموصول الشركاء الذين كانوا يزعمونهم شركاء من الشياطين ورؤساء الكفر، وتخصيصهم بما في حيز الصلة مع شمول مضمونها الاتباع أيضاً لأصالتهم في الكفر واستحقاق العذاب، والتعبير عنهم بذلك دون الذين زعموهم شركاء لإخراج مثل عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام لشمول الشركاء على ما سمعت له، ومسارعتهم إلى الجواب مع كون السؤال للعبدة لتفطنهم إن السؤال منهم سؤال توبيخ وإهانة وهو يستدعي استحضارهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأن العبدة سيقولون هؤلاء أضلونا، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون العبدة قد أجابوا معتذرين بقولهم هؤلاء أضلونا ثم قال الشركاء ما قص الله تعالى رداً لقولهم ذلك إلا أنه لم يحك إيجازاً لظهوره ‏{‏رَبَّنَا هَؤُلاء الذين أَغْوَيْنَا‏}‏ تمهيد للجواب والإشارة إلى العبدة لبيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده و‏{‏هَؤُلاء‏}‏ مبتدأ خبره الموصول بعده، وجملة أغوينا صلة الموصول والعائد محذوف للتصريح به فيما بعد أي الذين أغويناهم، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏أغويناهم كَمَا غَوَيْنَا‏}‏ هو الجواب حقيقة أي ما أكرهناهم على الغي وإنما أغويناهم بطريق الوسوسة والتسويل لا بالقسر والإلجاء فغووا باختيارهم غياً مثل غينا باختيارنا، ويجوز أن يكون الموصول صفة اسم الإشارة والخبر جملة أغويناهم كما غيونا ومنع ذلك أبو علي في التذكرة بأنه يؤدي إلى أن الخبر لا يكون فيه فائدة زائدة لأن إغواءهم إياهم قد علم من الوصف‏.‏ ورد بأن التشبيه دل على أنهم غووا باختيار لا أن الإغواء إلجاء وقوله‏:‏ إن كما غوينا فضلة فلا تصير ذاك أصلاً في الجملة ليس بشيء لأن الفضلات قد تلزم في بعض المواضع نحو زيد عمرو قائم في داره وقرأ أبان عن عاصم وبعض الشاميين ‏{‏كَمَا غَوَيْنَا‏}‏ بكسر الواو، قال ابن خالويه‏:‏ وليس ذلك مختاراً لأن كلام العرب غويت من الضلالة وغويت بالكسر من البشم ‏{‏تَبَرَّأْنَا‏}‏ منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوى من أنفسهم موجهين التبرؤ ومهيئين له ‏{‏إِلَيْكَ‏}‏ والجملة تقرير لما قبلها لأن الإقرار بالغواية تبرؤ في الحقيقة ولذا لم تعطف عليه وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ‏}‏ أي ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون في نفس الأمر والمآل أهواءهم، وقيل‏:‏ ما مصدرية متصلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَرَّأْنَا‏}‏ وهناك جار مقدر أي تبرأنا من عبادتهم إياناً وجعلها نافية على أن المعنى ما كانوا يعبدوننا باستحقاق وحجة ليس بشيء وأياً ما كان فإيانا مفعول يعبدون قدم للفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏وَقِيلَ‏}‏ تقريعاً لهم وتهكماً بهم ‏{‏ادعوا شُرَكَاءكُمْ‏}‏ الذين زعمتم ‏{‏فَدَعَوْهُمْ‏}‏ لفرط الحيرة وإلا فليس هناك طلب حقيقة للدعاء، وقيل‏:‏ دعوهم لضرورة الامتثال على أن هناك طلباً، والغرض من طلب ذلك منهم تفضيحهم على رؤوس الأشهاد بدعاء من لا نفع له لنفسه قيل‏:‏ والظاهر من تعقيب صيغة الأمر بالفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَدَعَوْهُمْ‏}‏ أنها لطلب الدعاء وإيجابه والأول أبلغ في تهويل أمر أولئك الكفرة والإشارة إلى سوء حالهم وأمر التعقيب بالفاء سهل ‏{‏فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ‏}‏ ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة، وجوز أن يكون المراد فلم يجيبوهم لأنهم في شغل شاغل عنهم ولعلهم ختم على أفواههم إذ ذاك ‏{‏وَرَأَوُاْ العذاب‏}‏ الظاهر أن الضمير للداعين وقال الضحاك‏:‏ هو للداعين والمدعوين جميعاً، وقيل‏:‏ هو للمدعوين فقط وليس بشيء‏.‏

والظاهر أن الرؤية بصرية ورؤية العذاب إما على معنى رؤية مباديه أو على معنى رؤيته نفسه بتنزيله منزلة المشاهد، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثاني محذوف أي رأوا العذاب متصلاً بهم أو غاشياً لهم أو نحو ذلك‏.‏ وأنت تعلم أن حذف أحد مفعولي أفعال القلوب مختلف في جوازه وتقدم آنفاً عن البعض أن الأكثرين على المنع فمن منع وقال في بيان المعنى ورأوا العذاب متصلاً بهم جعل متصلاً حالاً من العذاب ‏{‏لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ‏}‏ لو شرطية وجوابها محذوف أي لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب لدفعوا به العذاب أو لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين مؤمنين لما رأوا العذاب‏.‏

واعترض بأن الدال على المحذوف رأوا العذاب وهو مثبت فلا يقدر المحذوف منفياً وهو غير وارد لأن الالتفات إلى المعنى وإذا جاز الحذف لمجرد دلالة الحال فإذا انضم إليها شهادة المقال كان أولى وأولى، وجوز أن تكون ‏{‏لَوْ‏}‏ للتمني أي تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين فلا تحتاج إلى الجواب وقال صاحب التقريب‏:‏ فيه نظر إذ حقه أن يقال لو كنا إلا أن يكون على الحكاية كاقسم ليضربن أو على تأويل رأوا متمنين هدايتهم‏.‏

وجوز على تقدير كونها للتمني أن يكون قد وضع لو أنهم كانوا مهتدين موضع تحيروا لرؤيته كان كل أحد يتمنى لهم الهداية عند ذلك الهول والتحير ترحماً عليهم أو هو من الله تعالى شأنه على المجاز كما قيل‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ واتقوا لَمَثُوبَةٌ مّنْ عِندِ الله خَيْرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 103‏]‏، وجعل الطيبي وضعه موضعه من إطلاق المسبب على السبب لأن تحيرهم سبب حامل على هذا القول‏.‏

وقال عليه الرحمة‏:‏ إن النظم على هذا الوجه ينطبق، واختار الإمام الرازي أنهاش رطية إلا أنه لم يرتض ما قالوه في تقدير الجواب فقال بعد نقل ما قالوه‏:‏ وعندي أن الجواب غير محذوفة، وفي تقريره وجوه أحدها‏:‏ أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ادعوا شُرَكَاءكُمْ‏}‏ فهناك يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار فيصيرون بحيث لا يبصرون شيئاً، فقال سبحانه‏:‏ ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يبصرون شيئاً على معنى أنهم لم يروا العذاب لأنهم صاروا بحيث لا يبصرون شيئاً، وثانيها‏:‏ أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام إنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم‏:‏ ‏{‏وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ‏}‏ أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين، ولكنها ليست كذلك، والإتيان بمضير العقلاء على حسب اعتقاد القوم بهم، وثالثها‏:‏ أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك نظم الآية اه ولعمري أنه لم يأت بشيء وما يرد عليه أظهر من أن يخفى على من له أدنى تمييز بين الحي واللي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين‏}‏ عطف على الأول سئلوا أولاً عن إشراكهم لأنه المقصود من ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏، وثانياً عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الانباء يَوْمَئِذٍ‏}‏ أصله فعموا عن الأنباء أي لم يهتدوا إليها، وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث استعير العمى لعدم الاهتداء ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وضمن العمى معنى الخفاء فعدى بعلى ولولاه لتعدى بعن ولم يتعلق بالأنباء لأنها مسموعة لا مبصرة، وفي هذا القلب دلالة على أن ما يحضر الذهن يفيض عليه ويصل إليه من الخارج ونفس الأمر إما ابتداءً وإما بواسطة تذكر الصورة الواردة منه بأماراتها الخارجية فإذا أخطأ الذهن الخارج بأن لم يصل إليه لانسداد الطريق بينه وبينه بعمى ونحوه لم يمكنه إحضار ولا استحضار، وذلك لأنه لما جعل الأنباء الواردة عليهم من الخارج عمياً لا تهتدي دل على أنهم عمي لا يهتدون بالطريق الأولى لأن اهتداءهم بها فإذا كانت هي في نفسها لا تهتدي فما بالك بمن يهتدي بها كذا قيل‏:‏ فليتدبر، وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخيلية أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم، والمراد بالأنباء إما ما طلب منهم مما أجابوا به الرسل عليهم السلام أو ما يعمها وكل ما يمكن الجواب به، وإذا كانت الرسل عليهم السلام يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك في ذلك المقام الهائل ويفوضون العلم إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة المسؤول فما ظنك بأولئك الضلال من الأمم‏.‏

وقرأ الأعمش‏.‏ وجناح بن حبيش‏.‏ وأبو زرعة بن عمرو بن جرير ‏{‏فَعُمّيَتْ‏}‏ بضم العين وتشديد الميم‏.‏

‏{‏فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ‏}‏ أي لا يسأل بعضهم بعضاً لفرط الدهشة أو العلم بأن الكل سواء في الجهل، والفاء إما تفصيلية أو تفريعية لأن سبب العمى فرط الدهشة‏.‏

وقرأ طلحة ‏{‏لا‏}‏ بإدغام التاء في السين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏يَتَسَاءلُونَ فَأَمَّا مَن تَابَ‏}‏ أي من الشرك ‏{‏وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا‏}‏ أي جمع بين الإيمان والعمل الصالح ‏{‏فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين‏}‏ أي الفائزين بالمطلوب عنده عز وجل الناجين عن المهروب و‏{‏عَسَى‏}‏ للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب المذكور بمعنى فليتوقع أن يفلح، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا‏}‏ قيل لتفصيل المجمل الواقع في ذهن السامع من بيان ما يؤول إليه حال المشركين، وهو أن حال من تاب منهم كيف يكون، والدلالة على ترتب الإخبار به على ما قبله فالآية متعلقة بما عندها‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ هي متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن وعدناه وَعْداً حَسَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 61‏]‏ والحديث عن الشركاء مستطرد لذكر الإحضار، وتعقبه في «الكشف» بأن الظاهر أنه ليس متعلقاً به بل لما ذكر سبحانه حال من حق عليه القول من التابع والمتبوع قال تعالى شأنه حثاً لهم على الإقلاع‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا مَن تَابَ مِنْهُمْ وَامَنَ‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ ما ذكر لمصيرهم فأما من تاب فكلا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ خلقه من الأعيان والأعراض ‏{‏وَيَخْتَارُ‏}‏ عطف على يخلق، والمعنى على ما قيل يخلق ما يشاؤه باختياره فلا يخلق شيئاً بلا اختيار، وهذا مما لم يفهم مما يشاء فليس في الآية شائبة تكرار، وقيل في دفع ما يتوهم من ذلك غير ما ذكر مما نقله ورده الخفاجي ولم يتعرض للقدح في هذا الوجه، وأراه لا يخلو عن بعد ولي وجه في الآية سأذكره بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

‏{‏مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة‏}‏ أي التخير كالطيرة بمعنى التطير وهما والاختيار بمعنى، وظاهر الآية نفي الاختيار عن العبد رأساً كما يقوله الجبرية، ومن أثبت للعبد اختياراً قال‏:‏ إنه لكونه بالدواعي التي لو لم يخلقها الله تعالى فيه لم يكن كان في حيز العدم، وهذا مذهب الأشعري على ما حققه العلامة الدواني قال‏:‏ الذي أثبته الأشعري هو تعلق قدرة لعبد وإرادته الذي هو سبب عادي لخلق الله تعالى الفعل فيه، وإذا فتشنا عن مبادىء الفعل وجدنا الإرادة منبعثة عن شوق له وتصور أنه ملائم وغير ذلك من أمور ليس شيء منها بقدرة العبد واختياره، وحقق العلامة الكوراني في بعض رسائله المؤلفة في هذه المسألة أن مذهب السلف أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى وأن له اختياراً لكنه مجبور باختياره وأدعى أن ذلك هو مذهب الأشعري دون ما شاع من أن له قدرة غير مؤثرة أصلاً بل هي كاليد الشلاء ونفي الاختيار عنه على هذا نحوه على ما مر فإنه حيث كان مجبوراً به كان وجوده كالعدم، وقيل‏:‏ إن الآية أفادت نفي ملكهم للاختيار ويصدق على المجبور باختياره بأنه غير مالك للاختيار إذ لا يتصرف فيه كما يشاء تصرف المالك في ملكه، وقيل‏:‏ المراد لا يليق ولا ينبغي لهم أن يختاروا عليه تعالى أي لا ينبغي لهم التحكم عليه سبحانه بأن يقولوا لم لم يفعل الله تعالى كذا‏.‏

ويؤيده أن الآية نزلت حين قال الوليد بن المغيرة ‏{‏لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ أو حين قال اليهود لو كان الرسول إلى محمد صلى الله عليه وسلم غير جبريل عليه السلام لآمنا به على ما قيل، والجملة على هذا الوجه مؤكدة لما قبلها أو مفسرة له إذ معنى ذلك يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء أن يختاره لا ما يختاره العباد عليه ولذا خلت عن العاطف وهي على ما تقدم مستأنفة في جواب سؤال تقديره فما حال العباد أو هل لهم اختيار أو نحوه‏؟‏ فقيل‏:‏ إنهم ليس لهم اختيار، وضعف هذا الوجه بأنه لا دلالة على هذا المعنى في «النظم الجليل» وفيه حذف المتعلق وهو على الله تعالى من غير قرينة دالة عليه، وكون سبب النزول ما ذكر ممنوع، والقول الثاني فيه يستدعي بظاهره أن يكون ضمير لهم لليهود وفيه من البعد ما فيه، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا‏}‏ موصولة مفعول يختار والعائد محذوف، والوقف على يشاء لا نافية، والوقف على يختار كما نص عليه الزجاج‏.‏

وعلي بن سليمان‏.‏ والنحاس كما في الوجهين السابقين أي ويختار الذي كان لهم فيه الخير والصلاح، واختياره تعالى ذلك بطريق التفضل والكرم عندنا وبطريق الوجوب عند المعتزلة، وإلى موصولية ما وكونها مفعول يختار ذهب الطبري إلا أنه قال في بيان المعنى عليه‏:‏ أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس، وأنكر أن تكون نافية لئلا يكون المعنى أنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، وادعى أبو حيان أنه روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما معنى ما ذهب إليه، واعترض بأن اللغة لا تساعده لأن المعروف فيها أن الخيرة بمعنى الاختيار لا بمعنى الخير وبأنه لا يناسب ما بعده من تعالى قوله‏:‏ ‏{‏سبحان الله‏}‏ الخ، وكذا لا يناسب ما قبله من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏، وضعفه بعضهم بأن فيه حذف العائد ولا يخفى أن حذفه كثير‏.‏ وأجيب عما اعترض به الطبري بأنه يجوز أن يكون المراد بمعونة المقام استمرار النفي؛ أو يكون المراد ما كان لهم في علم الله تعالى ذلك، وهذا بعد تسليم لزوم كون المعنى ما ذكره لو أبقى الكلام على ظاهره‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ يتجه عندي أن يكون ما مفعول يختار إذا قدرنا كان تامة أي إن الله تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا بإذنه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الخيرة‏}‏ جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله سبحانه لهم لو قبلوا وفهموا اه‏.‏

يعني والله تعالى أعلم أن المراد خيرة الله تعالى لهم أي اختياره لمصلحتهم‏.‏ وللفاضل سعدي جلبي نحو هذا إلا أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الخيرة‏}‏ إنه في معنى ألهم الخيرة بهمزة الاستفهام الإنكاري، وذكر أن هذا المعنى يناسبه ما بعد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سبحان الله‏}‏ الخ فإنه إما تعجيب عن إثبات الاختيار لغيره تعالى أو تنزيه له عز وجل عنه، ولا يخفى ضعف ما قالاه لما فيه من مخالفة الظاهر من وجوه‏.‏ ويظهر لي في الآية غير ما ذكر من الأوجه، وهو أن يكون يختار معطوفاً على يخلق والوقف عليه تام كما نص عليه غير واحد وهو من الاختيار بمعنى الانتقاء والاصطفاء وكذا الخيرة بمعنى الاختيار بهذا المعنى والفعل متعد حذف مفعوله ثقة بدلالة ما قبله عليه أي ويختار ما يشاء، وتقديم المسند إليه في كل من جانبي المعطوف والمعطوف عليه لإفادة الحصر، وجملة ما كان لهم الخيرة مؤكدة لما قبلها حيث تكفل الحصر بإفادة النفي الذي تضمنته، والكلام مسوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة والشفاعة لهم يوم القيامة كما يرمز إليه

‏{‏ادعوا شُرَكَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 64‏]‏ وللتعبير بما وجه ظاهر، والمعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه دون غيره ينتقي ويصطفي ما يشاء انتقاءه واصطفاءه فيصطفي مما يخلقه شفعاء ويختارهم للشفاعة ويميز بعض مخلوقاته جل جلاله على بعض ويفضله عليه بما شاء ما كان لهؤلاء المشركين أن ينتقوا ويصطفوا ما شاءوا ويميزوا بعض مخلوقاته تعالى على بعض ويجعلوه مقدماً عنده عز وجل على غيره لأن ذلك يستدعي القدرة الكاملة وعدم كون فاعله محجوراً عليه أصلاً وأنى لهم ذلك فليس لهم إلا اتباع اصطفاء الله تعالى وهو جل وعلا لم يصطف شركاءهم الذين اصطفوهم للعبادة والشفاعة على الوجه الذي اصطفوهم عليه فما هم إلا جهال ضلال صدوا عما يلزمهم وتصدوا لما ليس لهم بحال من الأحوال، وإن شئت فنزل الفعل منزلة اللازم وقل المعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه لا غيره يفعل الاختيار والاصطفاء فيصطفي بعض مخلوقاته لكذا وبعضاً آخر لكذا ويميز بعضاً منها على بعض ويجعله مقدماً عنده تعالى عليه فإنه سبحانه قادر حكيم لا يسأل عما يفعل وهو جل وعلا أعظم من أن يعترض عليه وأجل، ويدخل في الغير المنفي عنه ذلك المشركون فليس لهم أن يفعلوا ذلك فيصطفوا بعض مخلوقاته للشفاعة ويختاروهم للعبادة ويجعلوهم شركاء له عز وجل ويدخل في الاختيار المنفي عنهم ما تضمنه قولهم ‏{‏لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ فإن فيه انتقاء غيره صلى الله عليه وسلم من الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي وتمييزه بأهلية تنزيل القرآن عليه فإن صح ما قيل‏:‏ في سبب نزول هذه الآية من أنه القول المذكور كان فيها رد ذلك عليهم أيضاً إلا أنها لتضمنها تجهيلهم باختيارهم الشركاء واصطفائهم إياهم آلهة وشفعاء كتضمنها الرد المذكور جىء بها هنا متعلقة بذكر الشركاء وتقريع المشركين على شركهم، وربما يقال‏:‏ إنها لما تضمنت تجهيلهم فيما له نوع تعلق به تعالى كاتخاذ الشركاء له سبحانه وفيما له نوع تعلق بخاتم رسله عليه الصلاة والسلام كتمييزهم غيره عليه الصلاة والسلام بأهلية الإرسال إليه وتنزيل القرآن عليه جىء بها بعد ذكر سؤال المشركين عن إشراكهم وسؤالهم عن جوابهم للمرسلين الناهين لهم عنه الذين عين أعيانهم وقلب صدر ديوانهم رسوله الخاتم لهم صلى الله عليه وسلم فلها تعلق بكلا الأمرين إلا أن تعلقها بالأمر الأول أظهر وأتم وخاتمتها تقتضيه على أكمل وجه وأحكم‏.‏

وربما يقال أيضاً‏:‏ إن لها تعلقاً بجميع ما قبلها، أما تعلقها بالأمرين المذكورين فكما سمعت، وأما تعلقها بذكر حال التائب فمن حيث أن انتظامه في سلك المفلحين يستدعي اختيار الله تعالى إياه واصطفاءه له وتمييزه على من عداه، ولذا جىء بها بعد الأمور الثلاثة وذكر انحصار الخلق فيه تعالى وتقديمه على انحصار الاختيار والاصطفاء مع أن مبنى التجهيل والرد إنما هو الثاني للإشارة إلى أن انحصار الاختيار من توابع انحصار الخلق، وفي ذكره تعالى بعنوان الربوبية إشارة إلى أن خلقه عز وجل ما شاء على وفق المصلحة والحكمة وإضافة الرب إليه صلى الله عليه وسلم لتشريفه عليه الصلاة والسلام وهي في غاية الحسن إن صح ما تقدم عن الوليد سبباً للنزول، ويخطر في الباب احتمالات أخر في الآية فتأمل فإني لا أقول ما أبديته هو المختار كيف وربك جل شأنه يخلق ما يشاء ويختار ‏{‏سبحان الله‏}‏ أي تنزه تعالى بذاته تنزهاً خاصاً به من أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره عز شأنه ‏{‏وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية ويحتمل أن تكون موصولة بتقدير مضاف أي عن مشاركة ما يشركونه به كذا قيل، وجعل بعضهم ‏{‏سبحان الله‏}‏ تعجيباً من إشراكهم من يضرهم بمن يريد لهم كل خير تبارك وتعالى وهو على احتمال كون ‏{‏مَا‏}‏ فيما تقدم موصولة مفعول يختار، والمعنى ويختار ما كان لهم فيه الخير والصلاح، ويجوز أن يكون تعجيباً أيضاً من اختيارهم شركاءهم الذين أعدوهم للشفاعة وإقدامهم على ما لم يكن لهم وذلك بناءً على ما ظهر لنا وظاهر كلام كثير أن الآية ليست من باب الإعمال، وجوز أن تكون منه بأن يكون كل من سبحان وتعالى طالباً عما يشركون والأفيد على ما قيل أن لا تكون منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ‏}‏ أي ما يكنون ويخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة ومن عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ وما يظهرونه من الأفعال الشنيعة والطعن فيه عليه الصلاة والسلام وغير ذلك، ولعله للمبالغة في خباثة باطنهم لأن ما فيه مبدأ لما يكون في الظاهر من القبائح لم يقل ما يكنون كما قيل‏:‏ ما يعلنون‏.‏

وقرأ ابن محيصن ‏{‏تَكُنْ‏}‏ بفتح التاء وضم الكاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الله‏}‏ أي وهو تعالى المستأثر بالألوهية المختص بها، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ تقرير لذلك كقولك‏:‏ الكعبة القبلة لا قبلة إلا هي‏.‏

‏{‏لَهُ الحمد فِى الاولى والاخرة‏}‏ أي له تعالى ذلك دون غيره سبحانه لأنه جل جلاله المعطي لجميع النعمب الذات وما سواه وسائط، والمراد بالحمد هنا ما وقع في مقابلة النعم بقرينة ذكرها بعده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏ الخ‏.‏

وزعم بعضهم أن الحمد هنا أعم من الشكر، واعتبر الحصر بالنسبة إلى مجموع حمدي الدارين زاعماً أن الحمد في الدنيا وإن شاركه فيه غيره تعالى لكن الحمد في الآخرة لا يكون إلا له تعالى، وفيه أن الحمد مطلقاً مختص به تعالى لأن الفضائل والأوصاف الجميلة كلها بخلقه تعالى فيرجع الحمد عليها في الآخرة له تعالى لأنه جل وعلا مبديها ومبدعها، ولو نظر إلى الظاهر لم يكن حمد الآخرة مختصاً به سبحانه أيضاً فإن نبينا صلى الله عليه وسلم يحمده الأولون والآخرون عند الشفاعة الكبرى، وفسر غير واحد حمده تعالى في الآخرة يقول المؤمنين‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 34‏]‏‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 75‏]‏، وقالوا‏:‏ التحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة، وفي حديث رواه مسلم‏.‏ وأبو داود، عن جابر في وصف أهل الجنة يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس ‏{‏وَلَهُ الحكم‏}‏ أي القضاء النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغيره تعالى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي له الحكم بين عباده تعالى فيحكم لأهل طاعته بالمغفرة والفضل ولأهل معصيته بالشقاء والويل ‏{‏وَإِلَيْهِ‏}‏ سبحانه لا إلى غيره‏.‏

‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ بالبعث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تقريراً لما ذكر ‏{‏أَرَءيْتُمْ‏}‏ أي أخبروني، وقرأ الكسائي ‏{‏أريتم‏}‏ بحذف الهمزة ‏{‏تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ‏}‏ أي دائماً وهو عند البعض من السرد وهو المتابعة والاطراد والميم مزيدة لدلالة الاشتقاق عليه فوزنه فعمل ونظيره دلامص من الدلاص، يقال‏:‏ درع دلاص أي ملساء لينة‏.‏

واختار بعض النحاة أن الميم أصلية فوزنه فعلل لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط، ونصبه إما على أنه مفعول ثان لجعل أو على أنه حال من الليل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ إما متعلق بسرمداً أو بجعل؛ وجوز أبو البقاء أيضاً تعلقه بمحذوف وقع صفة لسرمداً وجعله تعالى كذلك بإسكان الشمس تحت الأرض مثلاً وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ إِلَهٍ‏}‏ مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏غَيْرُ الله‏}‏ صفة لإله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْتِيكُمْ بِضِيَاء‏}‏ صفة أخرى له عليها يدور أمر التبكيت والإلزام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والارض‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 31‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاء مَّعِينٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏ ونظائرهما خلا إنه قصد بيان انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة، ولم يؤت بهل التي هي لطلب التصديق المناسب بحسب الظاهر للمقام، وأتى بمن التي هي لطلب التعيين المقتضى لأصل الوجود لإيراد التبكيت والإلزام على زعمهم فإنه أبلغ كما لا يخفى، وجملة ‏{‏مِنْ إِلَهٍ‏}‏ الخ قال أبو حيان‏:‏ في موضع المفعول الثاني لأرأيتم وجعل الليل مما تنازع فيه أرأيتم وجعل وقال‏:‏ إنه أعمل فيه الثاني فيكون المفعول الأول للأول محذوفاً، وحيث جعلت تلك الجملة في موضع مفعوله الثاني لا بد من تقدير العائد فيها أي من إله غيره يأتيكم بضياء بدله مثلاً، وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله، وكذا يقال في الآية بعد، وعن ابن كثير أنه قرأ ‏{‏بضآء‏}‏ بهمزتين ‏{‏بِضِيَاء أَفَلاَ تَسْمَعُونَ‏}‏ سماع فهم وقبول الدلائل الباهرة والنصوص المتظاهر لتعرفوا أن غير الله تعالى لا يقدر على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَرَءيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ بإسكان الشمس في وسط السماء مثلاً ‏{‏مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ‏}‏ استراحة من متاعب الأشغال ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة لتقفوا على أن غير الله تعالى لا قدرة له على ذلك، ويعلم مما ذكرنا أن كلاً من جملتي ‏{‏أفلا تسمعون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏ وأفلا تبصرون تذييل للتوبيخ الذي يعطيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏ الخ قبله، وأفاد الزمخشري أن ظاهر التقابل يقتضي ذكر النهار والتصرف فيه إلا أن العدول عن ذلك إلى الضياء وهو ضوء الشمس للدلالة على أنه يتضمن منافع كثيرة منها التصرف فلو أتى بالنهار لاستدعى القصر على تلك المنفعة من ضرورة التقابل ولأن المنافع للضياء لا للنهار على أن النهار أيضاً من منافعه، ثم استشعر أن يقال‏:‏ فلم لم يؤت بالظلام بدل الليل في الآية الثانية لتتم المقابلة من هذا الوجه‏؟‏ وأجاب بأنه ليس بتلك المنزلة فلا هو مقصود في ذاته كالضياء ولا أن المنافع من روادفه مع ما فيهما من الاستئناس والاشمئزاز، بل لو تأمل حق التأمل وجد حكم بأن الليل من منافع الضياء أيضاً والظلام من ضرورات كون الشمس المضيئة تحت الأرض وإلقاء ظل الليل، ثم أفاد أن التفصلة وهو التذييل المذكور فيها إرشاد إلى هذه النكتة فءن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏ يدل على أن التوبيخ بعدم التأمل في الضياء أكثر من حيث إن مدرك السمع أكثر‏.‏ والمراد ما يدركه العقل بواسطة السمع فلا يرد أن مدركه الأصوات وحدها ومدرك البصر أكثر من ذلك، وذلك أن ما لا يدرك بحس أصلاً يدرك بواسطة السمع إذا عبر عنه المعبر بعبارة مفهمة، وأما ما يدرك بالبصر فمن مشاهدة المبصرات وهي قليلة، وأما المطالعة من الكتب فإنها أضيق مجالاً من السمع وقرعه كذا في «الكشف»، والعلامة الطيبي قرر عبارة الكشاف بما قرر ثم قال‏:‏ الأبعد من التكلف أن يجعل أفلا تسمعون تذييلاً للتوبيخ المستفاد من أرأيتم الخ قبله وكذا ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ على ما في المعالم أفلا تسمعون سماع فهم وقبول أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ ليجتمع لهم الصمم والعمى من الإعراض عن سماع البراهين والإغماض عن رؤية الشواهد‏.‏

ولما كانت استدامة الليل أشق من استدامة النهار لأن النوم الذي هو أجل الغرض فيه شبيه الموت والابتغاء من فضل الله تعالى الذي هو بعض فوائد النهار شبيه بالحياة قيل في الأول أفلا تسمعون أي سماع فهم وفي الثاني أفلا تبصرون أي ما أنتم عليه من الخطأ ليطابق كل من التذييلين الكلام السابق من التشديد والتوبيخ، وذكر في حاصل المعنى ما ذكرناه أولاً ثم قال‏:‏ وفيه أن دلالة النص أولى وأقدم من العقل، وصاحب الكشف قرر العبارة بما سمعت وذكر أن ذلك لا ينافي ما في المعالم بل يؤكده ويبين فائدة التوبيخين، ونقل الطيبي عن الراغب في غرة التنزيل أنه قال‏:‏ إن نسخ الليل بالنير الأعظم أبلغ في المنافع وأضمن للمصالح من نسخ النهار بالليل، ألا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه لاستغناء أهلها عن الاستراحة فتقديم ذكر الليل لانكشافه عن النهار الذي هو أجدى من تفاريق العصا ومنافع ضوء شمسه أكثر من أن تحصى أحق وأولى، ومعنى قوله تعالى‏:‏

‏{‏أَفَلاَ تَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 71‏]‏ أفلا تسمعون سماع من يتدبر المسموه ليستدرك منه قصد القائل ويحيط بأكثر ما جعل الله تعالى في النهار من المنافع فإن عقيب السماع استدراك المراد بالمسموع إذا كان هناك تدبر وتفكر فيه ومعنى ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ أتستدركون من ذلك ما يجب استدراكه انتهى‏.‏

وفي «الكشف» أنه مؤيد لما ذكره صاحب الكشاف، وربما يقال ذكر سبحانه أولاً‏:‏ فرضية جعل الليل سرمداً وثانياً‏:‏ فرضية جعل النهار كذلك لأن الليل كما قالوا مقدم على النهار شرعاً وعرفاً وأيضاً ذلك أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 69‏]‏ ففي المثل الليل أخفى للويل وكذا بقوله تعالى سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُ الحمد فِى الاولى والاخرة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 70‏]‏ ففي الأثر كان الخلق في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره، ولعله لاعتبار الأولية والآخرية ذيلت الآية الأولى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَسْمَعُونَ‏}‏ بناءً على أن المعنى أفلا تسمعون ممن سلف من آبائكم أو مما سلف منا أن آلهتكم لا تقدر على مثل ذلك والثانية بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ بناءً على أن المعنى أفلا تبصرون أنتم عجزها عن مثل ذلك وجىء بالضياء غير موصوف في الآية الأولى وبالليل موصوفاً في الثانية لما أفاده الزمخشري وقيل في وجه تذييل الآية الأولى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَسْمَعُونَ‏}‏ دون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ أن المفروض لو تحقق بقي معه السمع دون الإبصار إذ ظلمة الليل لا تحجب السمع وتحجب البصر، وفي وجه تذييل الثانية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ دون ‏{‏أَفَلاَ تَسْمَعُونَ‏}‏ أن تحقق المفروض وعدمه سيان في أمر السمع دون الإبصار إذ لضياء النهار مدخل في الإبصار وليس له مدخل في السمع أصلاً وهو كما ترى ‏{‏واعلم‏}‏ أن ههنا إشكالاً وهو أن جعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة أن تحقق لم يتصور الإتيان بضياء أصلاً وكذا جعل النهار سرمداً إلى يوم القيامة إن تحقق لم يتصور الإتيان بليل كذلك، أما من غيره تعالى فظاهر لأنه معدن العجز عن كل شيء، وأما منه عز وجل فلاستلزامه اجتماع الليل والنهار إذا لو لم يجتمعا لم يتحقق الليل مستمراً إلى يوم القيامة وكذا جعل النهار كذلكوهو خلاف المفروض واجتماعهما محال والمحال لا صلاحية له لتعلق القدرة فلا يراد‏.‏

وأجيب بأن المراد إن أراد سبحانه ذلك فمن إله غيره تعالى يأتيكم بخلاف مراده سبحانه بأن يقطع الاستمرار فيأتي بنهار بعد ليل وليل بعد نهار، واعترض بأنه يفهم من الآية حينئذٍ أنه جل وعلا هو الذي إن أراد ذلك يأتيهم بخلاف مراده تعالى فيقطع الاستمرار وهو مشكل أيضاً لأن إتيانه تعالى بخلاف مراده جل وعلا مستلزم لتخلف المراد عن الإرادة هو محال فإذا أراد الله تبارك وتعالى شيئاً على وجه إرادة لا تعليق فيها لا يمكن أن يريده على خلاف ذلك الوجه، وأجيب بأنه يجوز أن يكون المراد إن أراد الله تعالى ذلك غير معلق له على إرادته عز شأنه خلافه لا يأتيكم بخلافه غيره عز وجل ولم يصرح بالقيد لدلالة العقل الصريح على أن الإرادة غير المعلقة لا يمكن الإتيان بخلاف موجبها أصلاً، ومن الناس من ذهب إلى أنه سبحانه لا يبت إرادته فجميع ما يريده جل شأنه معلق، وقيل‏:‏ الأولى أن يقال‏:‏ ليس المراد سوى أن آلهتهم لا يقدرون على الإتيان بنهار بعد ليل وليل بعد نهار إذا أراد الله تعالى شأنه استمرار أحدهما، وإنما القادر على الإتيان بذلك هو الله سبحانه وحده من غير نظر إلى كون ذلك الإتيان مقيداً بتلك الإرادة فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِن رَّحْمَتِهِ‏}‏ أي بسبب رحمته جل شأنه ‏{‏جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ أي في الليل ‏{‏وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي في النهار بالسعي بأنواع المكاسب ففي الآية ما يقال له اللف والنشر ويسمى أيضاً التفسير كقول ابن حيوش‏:‏

ومقرطق يغني النديم بوجهه *** عن كأسه الملأى وعن إبريقه

فعل المدام ولونها ومذاقها *** في مقلتيه ووجنتيه وريقه

وضمير فضله لله تعالى؛ وجوز أبو حيان كونه للنهار على الإسناد المجازي وهو خلاف الظاهر، وفيها إشارة إلى مدح السعي في طلب الرزق وقد ورد ‏{‏إِنّى عَبْدُ الله‏}‏ وهو لا ينافي التوكل وأن ما يحصل للعبد بواسطته فضل من الله عز وجل وليس مما يجب عليه سبحانه ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ أي ولكي تشكروا نعمته تعالى فعل ما فعل أو لتعرفوا نعمته تعالى وتشكروه عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ‏}‏ منصوب باذكر‏.‏

‏{‏فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ تقريع إثر تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده عز وجل، أو أن الأول لبيان فساد رأيهم كما يشير إليه قوله تعالى هناك‏:‏ ‏{‏حَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 63‏]‏، وهذا لبيان أن إشراكهم لم يكن عن سند بل عن محض هوى كما يشير إليه قوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏هَاتُواْ برهانكم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 75‏]‏ أو الأول إحضار للشركاء بعدم الصلوح لقوله سبحانه بعده‏:‏ ‏{‏ادعوا شُرَكَاءكُمْ فَدَعَوْهُمْ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 64‏]‏ وهذا تحسير بأنهم لم يكونوا في شيء من اتخاذهم ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 75‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَزَعْنَا‏}‏ عطف على ‏{‏يناديهم‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 74‏]‏ وصيغة الماضي للدلالة على التحقق أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية بشأن النزع وتهويله أي أخرجنا بسرعة ‏{‏مِن كُلّ أمَّةٍ‏}‏ من الأمم ‏{‏شَهِيداً‏}‏ شاهداً يشهد عليهم بما كانوا عليه وهو نبي تلك الأمة كما روي عن مجاهد، وقتادة، ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏ وهذا في موقف من مواقف يوم القيامة فلا يضر كون الشهيد في موقف آخر غير الأنبياء عليهم السلام وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو الملائكة عليهم السلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجِىء بالنبيين والشهداء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 69‏]‏ فإنه دال في الظاهر على مغايرة الشهداء للأنبياء عليهم السلام‏.‏

وقيل‏:‏ يجوز اتحاد الموقف والدلالة على المغايرة غير مسلمة ولو سلمت فشهادة الأنبياء عليهم السلام لا تنافي شهادة غيرهم معهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن كُلّ أمَّةٍ‏}‏ وإفراد شهيد ظاهر فيما تقدم، ومن هنا قال في البحر» قيل‏:‏ أي عدولاً وخياراً، والشهيد عليه اسم جنس ‏{‏فَقُلْنَا‏}‏ لكل من تلك الأمم ‏{‏هَاتُواْ برهانكم‏}‏ على صحة ما كنتم تدينون به‏.‏

‏{‏فَعَلِمُواْ‏}‏، يومئذٍ، ‏{‏أَنَّ الحق لِلَّهِ‏}‏، في الألوهية لا يشاركه سبحانه فيها أحد‏.‏

‏{‏وَضَلَّ عَنْهُم‏}‏ أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع فضل مستعار لمعنى غاب استعارة تبعية‏.‏

‏{‏مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏، في الدنيا من الباطل‏.‏